Abstract

نحاول في هذا البحث استعراض آراء الباحثين حول علم التأريخ لدى المسلمين، هل كان لدى المسلمين علم تأريخ خاص بهم؟ ونذكر ثلاثة آراء رئيسة تتناول هذا الموضوع. الرأي الأول: يرى أصحاب هذا الرأي أن ابن خلدون هو المؤسس الأول لعلم التأريخ، بتلك النظرة الغربية الحديثة لابن خلدون التي تجعل منه عالما غربيا بامتياز، وتتناسىى كونه عربيا مسلما حضارة وثقافة، يرى هؤلاء العلماء أن ما جاء في المقدمة هو نتاج تميز شخصي حاز عليه ابن خلدون، ومن ثم فهو ليس له امتداد تاريخي في الحضارة الإسلامية، وإنما هو كخضراء الدمن نشأ فريدا غريبا، ولذا كان الغربيون هم أول من اهتموا به ولفتوا النظر إلى ابن خلدون لأن العرب لم يكونوا ليفهموا هذا العلم الحديث لأنه ليس علمهم بل هو علم غربي كما يزعمون، حتى إن العرب لم يستفيدوا من كتابات ابن خلدون فعلم التاريخ عندهم لم يتغير بعده كثيرا، فالتغير ظل قاصرا على ظهور كتب الخطط، أما كتب التاريخ مثل كتاب السخاوي مثلًا فقد ظلت على ما هي عليه قبل ابن خلدون ولو يؤثر عليها الكتابات الخلدونية. ويذهب إلى هذا الرأي وجيه كوثراني. الرأي الثاني: أن المسلمين ليسوا في حاجة لعلم تأريخ من الأساس، ذلك أن العلم الذي استعمله المسلمون واعتمدوا عليه في معرفة الصواب من الخطأ التاريخي كان علم الإسناد، وهو العلم الذي لم يوجد لدى أحد من الأمم بهذا الشكل والحجم من قبل. فعلم الإسناد بما يتبعه من علم الرجال والجرح والتعديل والطبقات والوفيات والأنساب لم يحوج المسلمين إلى الاعتناء كثيرا بعلوم نقد المتن، وإن كان هذا لا يعني عدم وجودها البتة بطبيعة الحال، فشروط الرواية والرواة السابق الإشارة إليها ستظل هي عماد منهاج النقد عند أهل السنة في جميع أطواره، وإن اختلفت درجة الاحتكام إليها من طور لآخر من حيث التشدد أو التساهل. ويتبنى هذا الرأي أحمد الشال. والرأي الثالث: يذهب إلى أن المسلمين كان لهم علم تأريخ وهذا العلم هو علم مصطلح الحديث. ويأتي على رأس من يقولون بهذا القول أسد رستم والذي ألف كتابا سماه “مصطلح التاريخ” كأنه بهذا يجمع بين التاريخ ومصطلح الحديث. ورستم يقول إن أول نمن نظم نقد الروايات التاريخية ووضع القواعد لذلك علماء الدين الإسلامي، وهو يرى أنه ليس بإمكان كبار المؤرخين في أوروبا والغرب أن يكتبوا أفضل مما كتب علماء المصطلح وإن مباحث مثل مباحث “تحري الرواية والمجيء باللفظ” تضاهي ما ورد في نفس الموضوع مما كتبه الغربيون في عصرنا الحديث. ويضيف أن التاريخ ليس مجرد نقل للرواية والأسانيد بل علم له أصول وقواعد كما علوم الفقه والهندسة والطب، وهذه الأصول تتلاقى في كثير من الأمور مع أصول علم الحديث المتمثلة في علم المصطلح. وبعد هذا نناقش في بحثنا أولا ماهية علم التأريخ وعلاقته بعلم مصطلح الحديث، فأقول إنه لا يخفى على أحد ما امتاز به علم الإسناد في الإسلام، فهذا العلم على مر تاريخ كان مفخرة المسلمين التي لم يسبق أحد من الأمم لمثل هذا العلم كما يقول العلماء. والمتتبع لكتب التاريخ يجد علم الإسناد قد احتل نصيب الأسد في منهجية تلك الكتب. انظر على سبيل المثال كيف مكن علم الإسناد مؤرخا كالطبري من القول إن ما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا. فقد وجد في الأسانيد التي يسوقها في كل رواية عذرا ومجنا له دون نقد الناقدين، فهو بتقديمه للإسناد كأنه يقول إنما نقلت لك ما عرفت ونقلت لك أداة التمييز بين الخبيث والطيب فما عليك إلا أن تعمل الأداة لتعرفه. لكن لو لم يكن ثم الإسناد لما كان بوسع الطبري أن ينقل ما نقل وإلا كان ملبسا على الخلق. ويقول المسعودي في مقدمة كتابه إن كتابنا هذا كتاب خبر لا كتاب بحث ونظر، أما السخاوي فيقول إن شرط المؤرخ هو شرط المحدث حتى إن العلماء لم يجوزوا حكاية شيء من أمور الدين والهداية إلا بمستند تجوز بمثله الرواية لعلمهم أنه يشترط في المؤرخ ما يشترط من العدالة والضبط المضبوط ليكون معتمدا في أمر الدين وأمينا فيه بين المسلمين ولتزداد الرغبة في تاريخه من المعتبرين. بل حتى ابن خلدون الذي يعزى إليه نقد منهج الإسناد والقول بعدم كفاءته كمنهج للتاريخ، لم يهدم المنهج الإسنادي لدى المؤرخين بل أكد على أهمية الجمع بين علم السند وعلم العمران الذي أنشأه، فهو مثلا حين يذكر من أخطاء المؤرخين وقوعهم في الثقة بالناقلين يرى أن الحل في هذا هو الاعتماد على علم الجرح والتعديل. لكن هل تعني أهمية علم السند عند المسلمين أنه كان المنهجية الوحيدة التي اعتمدوا عليها؟ وهل ابن خلدون هو الوحيد الذي خرج عن هذا النسق؟ ما أدعيه أن ابن خلدون هو امتداد لمدرسة تاريخية أصيلة وأنه ليس فريدا من بابه، نعم لا شك هو قد أوضح وأصل وعمق الفكرة لكنه بنى ذلك على تاريخ إسلامي قديم، قائم على النقد والتمحيص المتجاوز لفكرة السند نفسها. وللدلالة على ذلك نسوق أمرين: الأول: أن أهل الحديث أنفسهم لم يقتصروا على نقد السند فحسب، وإذا كان الحديث الذي هو كلام المعصوم صلى الله عليه وسلم خضع لتلك المعايير فإن التاريخ أولى. يقول معتز الخطيب إن اعتماد المحدثين على الإسناد لم يمنعهم من اللجوء إلى مناهج أخرى لنقد الحديث. وقد ساق دراسة كاملة عن هذا فليراجعها من أحب. الأمر الثاني: أن المؤرخين قبل ابن خلدون أنفسهم لجئوا لمناهج أخرى غير نقد السند. من ذلك ما يرويه هارون القروي أنه رأى الواقدي بمكة ومعه ركوة فقال أين تريد؟ فقال أريد أن أمضى إلى حُنين حتى أرى الموضع والموقعة. فهو لم يكتف بالأخبار بل أراد أن يقوم بدراسات ميدانية ethnographic ليتأكد من صحتها من عدمها. والمسعودي في مقدمة تاريخه يذكر مثل سابقه كيف أنه قطع الفيافي والجبال فقطع بلاد السند والصنف والصين والزابج وخراسان وأرمينية وأذربجان والران والبيلقان والعراق والشام ليرى البلاد “معاينة” ثم هو يلوم على من قنع بما نمى له من الأخبار وقعد في بلده. ومن قرأ مقدمة ابن خلدون وقرأ مقدمة مسكويه في تاريخه الموسوم بتجارب الأمم على وجازتها أدرك ما بينهما من الشبه. واليعقوبي لا يختلف عن ذلك ففي تاريخه يذكر بعض أساطير الفرس ثم يقول إن لهم أخبار قد أثبتت.. تركناها لأن مذهبنا ترك كل مستبشع. والمسعودي أيضا مثل صاحبه، بل هو لا يكتفي بنقد تلك الأخبار بل قد يذكرها ويعللها وفق ما يرى من علوم فيعلل ما يذكره العرب من الغول والعنقاء بأنه نتاج التوحد في القفار والإنسان إذا تفكر وإذا تفكر جبن فتدخله الظنون والأوهام ويتراءى له ما ليس بحقيقة. ما أفرضه في الجزء الثاني من هذا البحث أن على الباحث عن علم التأريخ الإسلامي أن يوسع نطاق بحثه ليتجاوز كتب التاريخ فيبحث في علوم الآلة عند المسلمين مثل علم الكلام الإسلامي وعلم أصول الفقه وما مثلهما من علوم المناهج. وما أحاوله هنا هو وضع لبنة في سبيل بناء هذا العلم من خلال جمع الأشتات الموجودة في تلك العلوم والمتعلقة بنقد التاريخ. والباحث في هذا الباب عليه أن يأخذ في اعتباره مجموعة من الاحترازات: فنحن حين نتحدث عن نقد التاريخ فإننا نعني به نقد التاريخ كما فهمه المسلمون في عصرهم، ولسنا ملزمين بالتقيد بمباحث نقد التاريخ الحديث والذي يجدر التنبيه على أنه علم غربي. وكذلك أننا حين نتحدث عن تشابه بين العلوم الإسلامية وعلم التأريخ المعاصر فهذا لا يعني نوع تطابق أو تماثل، أو أن التقسيات المعرفية الغربية يمكن أن تنطبق على التقسيمات الإسلامية. ثالثا أن تداخل العلوم لا يعني أن كل المناهج الموجودة في علوم الكلام أو الأصول أو المنطق يمكن تطبيقها على علم التاريخ، فالفروق موجودة بين العلوم ونفس المسألة قد تبحث في علم الكلام مثلا وقد يكون حكمها شيئا ما. وأخيرا فإن عدم جمع تلك القواعد في علم واحد في العصور المسلمة السابقة، لا يعني أنهم كانوا يجهلون تلك القواعد، فتلك القواعد كانت معلومة لدى الجميع وليست مما يخفى على دارس للعلم. وسنعرض بعد ذلك في بحثنا لمجموعة من القضايا والمناهج التي تشترك بين التاريخ وبين مناهج العلوم الأخرى كعلم الكلام والأصول ونحوها كما أسلفنا. وسنكتفي هنا في هذا الملخص بعرض مثال واحد لتلك النقاشات لأن المجال لا يتسع لأكثر من ذلك على أن تكون تلك المحاولة هي لبنة في بناء علم متكامل، من ذلك مثلا: هل يرى المسلمون أن للتاريخ قوانين وقواعد مضطردة يسير عليها؟ هل الأحداث التاريخية ناشئة عن أسباب عقلية لازمة أم عن مسببات غيبية متعالية؟ والإجابة على ذلك تطرقنا للحديث عن السببية وهو حديث قديم تطرق إليه علماء الكلام منذ القرن الأول الهجري، وهو كان وما زال محل جدل بين علماء المسلمين، لكن هل يمكننا تنزيل هذا الخلاف على الدراسات التاريخية؟ يرى الأشاعرة أن العلاقة بين السبب والمسبب هي علاقة عادية وليست تلازمية، بمعنى أن ما يجعل النار تحرق القطن ليس قوة كامنة في النار، وليس نتيجة علاقة تلازمية بين النار والقطن بحيث كلما عرضت القطن للقطن احترق، وإنما هي علاقة عادية بمعنى أنه قد جرت العادة على أن يحترق القطن كلما وضع على النار، لكن هل يعني هذا أن المسلمين لا يؤمنون بقوانين تحكم التاريخ وأنهم يعزون كل الأسباب إلى قوة الإله المتعالية كما كان هو الحال في القرون الوسطى في أوروبا؟ كما يقول أوغطسين إن الله أبدي وهو خالق الزمن، ولا يجوز فهم الأبدي ولا وصفه من وجهة نظر الموقت.. وليس في الإمكان الاعتقاد أن الله ترك ممالك البشر خارج قوانين العناية. ومن ثم فإن من الحكمة تعليل الأحداث بأنها مشيئة الله وخلقه يصرفه كيفما شاء. لكن المتتبع لكلام الأشاعرة يجدهم لا ينفون وجود علاقة بين السبب والمسبب، لكنهم يقولون إن هذه العلاقة علاقة عادية أي غير لازمة يمكن تخلفها، ومن ثم فلا مانع من أن نفسر تلك العلاقة وأن نبحث عن عللها وأسرارها، وهنا يظهر الفرق بين مذهب المسلمين ومذهب المسيحيين في القرون الوسطى فإن كان كلا الطرفين يسلمون بأن الأمر بيد الله، فإن المسلمين يرون أن هذا لا يتعارض مع وجود علاقة ما تفسر الأحداث التاريخية تفسيرا بشريا، وإن كانت هذه العلاقة غير لازمة. يذكر ولفرد كانتون سميث كيف أن الهندي لا يأبه للتاريخ ولا يحس بوجوده لأن التاريخ هو عالم الحس والهندي دائما مشغول بعالم الروح، وكيف أن المسيحي يعيش دائما في عالمين منفصلين المثل الأعلى غير القابل للتطبيق والواقع البشري المنقطع عن ذلك العالم، أما المسلم فالتاريخ بالنسبة له نسيج مشترك في حرية الإنسان وحكم الله. والسؤال الآخر هو هل هذه السنن مضطردة بمعنى أنها تحدث في كل عصر وزمان وكل زمان بغض النظر عن الفروق بين البشر؟ وهل هذه القواعد التي يتوصل إليها هي قابلة للخطأ أم هي مثل ما يدعى عن قواعد العلوم الطبيعية من أنها يمكن أن نصل إليها من غير خطأ، وهذا ينقلنا إلى مبحث القطعي والظني عند المسلمين. فإذا كان التاريخ يتوصل له من خلال استقراء الحوداث المختلفة وجمعها للوصول إل نتيجة ما، فتلك النتيجة إذا كانت نتيجة استقراء ناقص فهي ظنية وإن كانت نتيجة استقراء تام وهذا غير ممكن في التاريخ غالبا فهو قطعي الدلالة. وفي النهاية أعتقد أن هذه الدراسة قد تشكل نقلة مهمة وثورية في دراسة علم التأريخ لدى المسلمين، وقد تفتح الباب نحو إعادة فهم علم التأريخ الإسلامي بمنظور مختلف عن مجرد الحصر الضيق على الدراسات التاريخية فقط، فهي تقود إلى التركيز على أماكن لم يعن بها المؤرخون في بحثهم من قبل، وهي علوم الآلة لدى المسلمين متمثلة في علوم الكلام وأصول الفقه وعلوم القرآن.

Loading

Article metrics loading...

/content/papers/10.5339/qfarc.2016.SSHASP1894
2016-03-21
2024-03-28
Loading full text...

Full text loading...

http://instance.metastore.ingenta.com/content/papers/10.5339/qfarc.2016.SSHASP1894
Loading

Most Cited Most Cited RSS feed